الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي غمر العباد بلطائفه وعمر قلوبهم بأنوار الدين ووظائفه التي تنزل عن عرش الجلال إلى السماء الدنيا من درجات الرحمة إحدى عواطفه فارق الملوك مع التفرد بالجلال والكبرياء بترغيب الخلق في السؤال والدعاء فقال: هل من داع فأستجيب له وهل من مستغفر فأغفر له وباين السلاطين بفتح الباب ورفع الحجاب فرخص للعباد في المناجاة بالصلوات كيفما تقلبت بهم الحالات في الجماعات والخلوات ولم يقتصر على الرخصة بل تلطف بالترغيب والدعوة وغيره من ضعفاء الملوك لا يسمح بالخلوة إلا بعد تقديم الهدية والرشوة فسبحانه ما أعظم شأنه وأقوى سلطانه وأتم لطفه وأعم إحسانه والصلاة على محمد نبيه المصطفى ووليه المجتبى وعلى آله وأصحابه مفاتيح الهدى ومصابيح الدجى وسلم تسليماً. أما بعد: فإن الصلاة عماد الدين وعصام اليقين ورأس القربات وغرة الطاعات وقد استقصينا في فن الفقه - في بسيط المذهب ووسيطه ووجيزه - أصولها وفروعها صارفين جمام العناية إلى تفاريعها النادرة. ووقائعها الشاذة لتكون خزانة للمفتي منها يستمد ومعولاً له إليها يفزع ويرجع. ونحن الآن في هذا الكتاب نقتصر على ما لابد للمريد منه من أعمالها الظاهرة وأسرارها اباطنة وكاشفون من دقائق معانيها الخفية في معاني الخشوع والإخلاص والنية ما لم تجر العادة بذكره في فن الفقه ومرتبون الكتاب على سبعة أبواب. الباب الأول: في فضائل الصلاة. الباب الثاني: في تفضيل الأعمال الظاهرة من الصلاة. الباب الثالث: في تفضيل الأعمال الباطنة منها. الباب الرابع: في الإمامة والقدوة. الباب الخامس: في صلاة الجمعة وأدابها. الباب السادس: في مسائل متفرقة تعم بها البلوى يحتاج المريد إلى معرفتها. الباب السابع: في التطوعات وغيرها. الباب الأول في فضائل صلاة السجود والجماعة والأذان وغيرها فضيلة الأذان قال صلى الله عليه وسلم " ثلاثة يوم القيامة على كثيب من مسك أسود لا يهولهم حساب ولا ينالهم فزع حتى يفرغ مما بين الناس: رجل قرأ القرآن ابتغاء وجه الله عز وجل وأم بقوم وهم به راضون ورجل أذن في مسجد ودعا إلى الله عز وجل ابتغاء وجه الله ورجل ابتلي بالرزق في الدنيا فلم يشغله ذلك عن عمل الآخرة " وقال صلى الله عليه وسلم " لا يسمع نداء المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة " وقال صلى الله عليه وسلم " يد الرحمن على رأس المؤذن حتى يفرغ من أذانه " وقيل في تفسير قوله عز وجل " ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً " نزلت في المؤذنين وقال صلى الله عليه وسلم " إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن " وذلك مستحب إلا في الحيعلتين فإنه يقول فيهما: لا حول ولا قوة إلا بالله وفي قوله قد قامت الصلاة أقامها الله وأدامها ما دامت السموات والأرض وفي التثويب صدقت وبررت ونصحت وعند الفراغ يقول اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد. وقال سعيد بن المسيب من صلى بأرض فلاة صلى عن يمينه ملك وعن شماله ملك فإن أذن وأقام صلى وراء أمثال الجبال من الملائكة. فضيلة المكتوبة قال الله تعالى " إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً " وقال صلى الله عليه وسلم " خمس صلوات كتبهن الله على العباد فمن جاء بهن ولم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة " وقال صلى الله عليه وسلم " مثلي الصلوات الخمس كمثل نهر عذب غمر بباب أحدكم يقتحم فيه كل يوم خمس مرات فما ترون ذلك يبقي من درنه قالوا لا شيء قال صلى الله عليه وسلم فإن الصلوات الخمس تذهب الذنوب كما يذهب الماء الدرن " وقال صلى الله عليه وسلم " إن الصلوات كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر " وقال صلى الله عليه وسلم " بيننا وبين المنافقين شهود العتمة والصبح لا يستطيعونهما " وقال صلى الله عليه وسلم " من لقي الله وهو مضيع للصلاة لم يعبأ الله بشيء من حسناته " وقال صلى الله عليه وسلم " الصلاة عماد الدين فمن تركها فقدم هدم الدين " وسئل صلى الله عليه وسلم " أي الأعمال أفضل فقال الصلاة لمواقيتها " وقال صلى الله عليه وسلم " من حافظ على الخمس بإكمال طهورها ومواقيتها كانت له نوراً وبرهاناً يوم القيامة ومن ضيعها حشر مع فرعون وهامان " وقال صلى الله عليه وسلم " مفتاح الجنة الصلاة " وقال " ما افترض الله على خلقه بعد التوحيد أحب إليه من الصلاة ولو كان شيء أحب إليه منها لتعبد به ملائكته فمنهم راكع ومنهم ساجد ومنهم قائم وقاعد " وقال النبي صلى الله عليه وسلم " من ترك صلاة متعمداً فقد كفر " أي قارب أن ينخلع عن الإيمان بانحلال عروته وسقوط عماده كما يقال لمن قارب البلدة إنه بلغها ودخلها. وقال صلى الله عليه وسلم " من ترك صلاة معتمداً فقد برىء من ذمة محمد عليه السلام " وقال أبو هريرة رضي الله عنه: من توضأ فأحسن وضوءه ثم خرج عامداً إلى الصلاة فإنه في صلاة ما كان يعمد إلى الصلاة وأنه يكتب له بإحدى خطوتيه حسنة وتمحى عنه بالأخرى سيئة فإذا سمع أحدكم الإقامة فلا ينبغي له أن يتأخر فإن أعظمكم أجراً أبعدكم داراً قالوا لم يا أبا هريرة قال: من أجل كثرة الخطا. ويروى " إن أول ما ينظر فيه من عمل العبد يوم القيامة الصلاة فإن وجدت تامة قبلت منه وسائر عمله وإن وجدت ناقصة ردت عليه وسائر عمله وقال صلى الله عليه وسلم " يا أبا هريرة مر أهلك بالصلاة فإن الله يأتيك بالرزق من حيث لا تحتسب " وقال بعض العلماء: مثل المصلي مثل التاجر الذي لا يحصل له الربح حتى يخلص له رأس المال وكذلك المصلي لا تقبل له نافلة حتى يؤدي الفريضة. وكان أبو بكر رضي الله عنه يقول: إذا حضرت الصلاة قوموا إلى ناركم التي أوقدتموها فأطفئوها. فضيلة إتمام الأركان قال صلى الله عليه وسلم " مثل الصلاة المكتوبة كمثل الميزان من أوفى استوفى " وقال يزيد الرقاشي " كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مستوية كأنها موزونة " وقال صلى الله عليه وسلم " إن الرجلين من أمتي ليقومان إلى الصلاة وركوعهما وسجودهما واحد وإن ما بين صلاتيهما ما بين السماء والأرض " وأشار إلى الخشوع وقال صلى الله عليه وسلم " لا ينظر الله يوم القيامة إلى العبد لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده " وقال صلى الله عليه وسلم " أما يخاف الذي يحول وجهه في الصلاة أن يحول الله وجهه وجه حمار " وقال صلى الله عليه وسلم " من صلى صلاة لوقتها وأسبغ وضوءها وأتم ركوعها وسجودها وخشوعها عرجت وهي بيضاء مسفرة تقول حفظك الله كما حفظتني ومن صلى لغي وقتها ولم يسبغ وضوءها ولم يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها عرجت وهي سوداء مظلمة تقول ضيعك الله كما ضيعتني حتى إذا كانت حيث شاء الله لفت كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجهه " وقال صلى الله عليه وسلم " أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته " وقال ابن مسعود رضي الله عنه وسلمان رضي الله عنه: الصلاة مكيال فمن أوفى استوفى ومن طفف فقد علم ما قاله الله في المطففين. فضيلة الجماعة قال صلى الله عليه وسلم " صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة " وروى أبو هريرة أنه صلى الله عليه وسلم فقد ناساً في بعض الصلوات فقال " لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها فأحرق عليهم بيوتهم " وفي رواية أخرى " ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها فآمر بهم فتحرق عليهم بيوتهم بحزم الحطب ولو علم أحدهم أنه يجد عظماً سميناً أو مرماتين لشهدها " يعني صلاة العشاء. وقال عثمان رضي الله عنه مرفوعاً " من شهد العشاء فكأنما قام نصف ليلة ومن شهد الصبح فكأنما قال ليلة " وقال صلى الله عليه وسلم " من صلى صلاة في جماعة فقد ملأ نحره عبادة " وقال سعيد بن المسيب: ما أذن مؤذن منذ عشرين سنة إلا وأنا في المسجد. وقال محمد بن واسع: ما أشتهي من الدنيا إلا ثلاثة: أخاً إنه إن تعوجت قومني وقوتاً من الرزق عفواً من غير تبعة وصلاة في جماعة يرفع عني سهوها ويكتب لي فضلها. وروي أن أبا عبيدة بن الجراح أم قوماً مرة فلما انصرف قال: مازال الشيطان بي آنفاً حتى أريت أن لي فضلاً عن غيري لا أؤم أبداً. وقال الحسن: لا تصلوا خلف رجل لا يختلف إلى العلماء. وقال النخعي: مثل الذي يؤم الناس بغير علم مثل الذي يكيل الماء في البحر لا يدري زيادته من نقصانه وقال حاتم الأصم: فاتتني الصلاة في الجماعة فعزاني أبو إسحق الباري وحده ولو مات لي ولد لعزاني أكثر من عشر آلاف لأن مصيبة الدين أهون عند الناس من مصيبة الناس. وقال ابن عباس رضي الله عنهما من سمع المنادي فلم يجب لم يرد خيراً لم يرد به خير. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: لأن تملأ أذن ابن آدم رصاصاً مذاباً خير له من أن يسمع النداء ثم لا يجيب. وروي أن ميمون بن مهران أتى المسجد فقيل له: إن الناس قد انصرفوا فقال " إنا لله وإنا إليه راجعون " لفضل هذه الصلاة أحب إلي من ولاية العراق. وقال صلى الله عليه وسلم " من صلى أربعين يوماً الصلوات في جماعة لا تفوته فيها تكبيرة الإحرام كتب الله له براءتين: براءة من النفاق وبراءة من النار " ويقال إنه إذا كان يوم القيامة يحشر قوم وجوههم كالكوكب الدري فتقول لهم الملائكة: ما كانت أعمالكم فيقولون: كنا إذا سمعنا الأذان قمنا إلى الطهارة لا يشغلنا غيرها ثم تحشر طائفة وجوههم كالأقمار فيقولون بعد السؤال: كنا نتوضأ قبل الوقت ثم تحشر طائفة وجوههم كالشمس فيقولون: كنا نسمع الأذان في المسجد. وروي أن السلف كانوا يعزون أنفسهم ثلاثة أيام إذا فاتتهم التكبيرة الأولى ويعزون سبعاً إذا فاتتهم الجماعة. فضيلة السجود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما تقرب العبد إلى الله بشيء أفضل من سجود خفي " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من مسلم يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها سيئة " وروي " أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع الله أن يجعلني من أهل شفاعتك وأن يرزقني مرافقتك في الجنة فقال صلى الله عليه وسلم أعني بكثرة السجود " وقيل " إن أقرب ما يكون العبد من الله تعالى أن يكون ساجداً " وهو معنى قوله عز وجل " واسجد واقترب " وقال عز وجل " سيماهم في وجوههم من أثر السجود " فقيل هو ما يلتصق بوجوههم من الأرض عند السجود وقيل هو نور الخشوع فإنه يشرق من الباطن على الظاهر وهو الأصح وقيل هي الغرر التي تكون في وجوههم يوم القيامة من أثر الوضوء وقال صلى الله عليه وسلم " إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويلاه أمر هذا بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت أنا بالسجود فعصيت فلي النار " ويروى عن علي بن عبد الله بن عباس أنه كان يسجد في كل يوم ألف سجدة وكانوا يسمونه السجاد. ويروى أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان لا يسجد إلا على التراب. وكان يوسف بن أسباط يقول: يا معشر الشباب بادروا بالصحة قبل المرض فما بقي أحد أحسده إلا رجل يتم ركوعه وسجوده وقد حيل بيني وبين ذلك. وقال سعيد بن جبير: ما آسى على شيء من الدنيا إلا على السجود. وقال عقبة بن مسلم: ما من خصلة في العبد أحب إلى الله عز وجل من رجل يحب لقاء الله عز وجل وما من ساعة العبد فيها أقرب إلى الله عز وجل منه حيث يخر ساجداً. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: أقرب ما يكون العبد إلى الله عز وجل إذا سجد فأكثروا الدعاء عند ذلك. فضيلة الخشوع قال الله تعالى " وأقم الصلاة لذكري " وقال تعالى " ولا تكن من الغافلين " وقال عز وجل " لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون " قيل سكارى من كثرة الهم وقيل من حب الدنيا.
وقال وهب: المراد به ظاهره ففيه تنبيه على سكر الدنيا إذ بين فيه العلة فقال " حتى تعلموا ما تقولون " وكم من مصل لم يشرب خمراً وهو لا يعلم ما يقول في صلاته. وقال النبي صلى الله عليه وسلم " من صلى ركعتين لم يحدث نفسه فيهما بشيء من الدنيا غفر له ما تقدم من ذنبه " وقال صلى الله عليه وسلم " إنما الصلاح تمسكن وتواضع وتضرع وتأوه وتنادم وتضع يديك فتقول اللهم اللهم فمن لم يفعل فهي خداج " وروي عن الله سبحانه في الكتب السالفة أنه قال " ليس كل مصل أتقبل صلاته إنما أقبل صلاة من تواضع لعظمتي ولم يتكبر على عبادي وأطعم الفقير الجائع لوجهي " وقال صلى الله عليه وسلم " إنما فرضت الصلاة وأمر بالحج والطواف وأشعرت المناسك لإقامة ذكر الله تعالى فإذا لم يكن في قلبك للمذكور الذي هو المقصود والمبتغى علظمة ولا هيبة فما قيمة ذكرك " وقال صلى الله عليه وسلم للذي أوصاه " وإذا صليت فصل صلاة مودع " أي مودع لنفسه مودع لهواه مودع لعمره سائر إلى مولاه كما قال عز وجل " يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه " وقال تعالى " واتقوا الله ويعلمكم الله " وقال تعالى " واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه " وقال صلى الله عليه وسلم " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً " والصلاة مناجاة فكيف تكون مع الغفلة وقال بكر بن عبد الله: يا ابن آدم إذا شئت أن تدخل على مولاك بغير إذن فتكلمه بلا ترجمان دخلت قيل: وكيف ذلك قال: تسبغ وضوءك وتدخل محرابك فإذا أنت قد دخلت على مولاك بغير إذن فتكلمه بغير ترجمان. وعن عائشة رضي الله عنها قالت " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا ونحدثه فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه " اشتغالاً بعظمة الله عز وجل وقال صلى الله عليه وسلم " لا ينظر الله إلى صلاة لا يحضر الرجل فيها قلبه مع بدنه " وكان إبراهيم الخليل إذا قام إلى الصلاة يسمع وجيب قلبه على ميلين. وكان سعيد التنوخي إذا صلى لم تنقطع الدموع من خديه على لحيته " ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة فقال لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه " ويروى أن الحسن نظر إلى رجل يعبث بالحصى ويقول " اللهم زوجني الحور العين " فقال بئس الخاطب أنت تخطب الحور العين وأنت تعبث بالحصى. وقيل لخلف بن أيوب: ألا يؤذيك الذباب في صلاتك فتطردها قال: لا أعود نفسي شيئاً يفسد على صلاتي قيل له: وكيف تصبر على ذلك قال: بلغني أن الفساق يصبرون تحت أسواط السلطان ليقال فلان صبور ويفتخرون بذلك فأنا قائم بين يدي ربي أفأتحرك لذبابة ويروى عن مسلم بن يسار أنه كان إذا أراد الصلاة قال لأهله: تحدثوا أنتم فإني لست أسمعكم. ويروى عنه أنه كان يصلي يوماً في جامع البصرة فسقطت ناحية من المسجد فاجتمع الناس لذلك فلم يشعر به حتى انصرف من الصلاة. وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه إذا حضر وقت الصلاة يتزلزل ويتلون وجهه فقيل له: ما لك يا أمير المؤمنين فيقول جاء وقت أمانة عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملتها. ويروى عن علي بن الحسين أنه كان إذا توضأ اصفر لونه فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء فيقول: أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال " قال داود صلى الله عليه وسلم في مناجاته: إلهي من يسكن بيتك وممن تتقبل الصلاة فأوحى الله إليه: يا داود إنما يسكن بيتي وأقبل الصلاة منه من تواضع لعظمتي وقطع نهاره بذكري وكف نفسه عن الشهوات من أجلي يطعم الجائع ويؤوي الغريب ويرحم المصاب فذلك الذي يضيء نوره في السموات كالشمس إن دعاني لبيته وإن سألني أعطيته أجعل له في الجهل حلماً وفي الغفلة ذكراً وفي الظلمة نوراً وإنما مثله في الناس كالفردوس في أعلى الجنان لا تيبس أنهارها ولا تتغير ثمارها " ويروى عن حاتم الأصم رضي الله عنه أنه سئل عن صلاته فقال: إذا حانت الصلاة أسبغت الوضوء وأتيت الموضع الذي أريد الصلاة فيه فأقعد فيه حتى تجتمع جوارحي ثم أقوم إلى صلاتي وأجعل الكعبة بين حاجبي والصراط تحت قدمي والجنة عن يميني والنار عن شمالي وملك الموت ورائي أظنها آخر صلاتي " ثم أقوم بين الرجاء والخوف وأكبر تكبيراً بتحقيق وأقرأ قراءة بترتيل وأركع ركوعاً بتواضع وأسجد سجوداً بتخشع وأقعد على الورك الأيسر وأفرش ظهر قدمها وأنصب القدم اليمنى على الإبهام وأتبعها الإخلاص ثم لا أدري أقبلت مني أم لا وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة والقلب ساه.
قال الله عز وجل " إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر " وقال صلى الله عليه وسلم " من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له قصراً في الجنة " وقال صلى الله عليه وسلم " من ألف المسجد ألفه الله تعالى " وقال صلى الله عليه وسلم " إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس " وقال صلى الله عليه وسلم " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " وقال صلى الله عليه وسلم " الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي يصلي فيه تقول: اللهم صل عليه اللهم ارحمه اللهم اغفر له ما لم يحدث أو يخرج من المسجد " وقال صلى الله عليه وسلم " يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقاً حلقاً ذكرهم الدنيا وحب الدنيا لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة " وقال صلى الله عليه وسلم " قال الله عز وجل في بعض الكتب إن بيوتي في أرضي المساجد وإن زواري فيها عمارها فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحق على المزور أن يكرم زائره " وقال صلى الله عليه وسلم " إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان " وقال سعيد بن المسيب من جلس في المسجد فإنما يجالس ربه فما حقه أن يقول إلا خيراً. ويرى في الأثر أو الخبر " الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهائم الحشيش " وقال النخعي: كانوا يرون أن المشي في الليلة المظلمة إلى المسجد موجب للجنة: وقال أنس بن مالك: من أسرج في المسجد سراجاً لم تزل الملائكة وحملة العرش يستغفرون له مادام في ذلك المسجد ضوءه. وقال علي كرم الله وجهه: إذا مات العبد يبكي عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء ثم قرأ " فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين " وقال ابن عباس: تبكي عليه الأرض أربعين صباحاً. وقال عطاء الخراساني: ما من عبد يسجد لله سجدة في بقعة يذكر الله تعالى عليها بصلاة أو ذكر إلا افتخرت على ما حولها من البقاع واستبشرت بذكر الله عز وجل إلى منتهاها من سبع أرضين وما من عبد يقوم يصلي إلا تزخرفت له الأرض. ويقال: ما من منزل ينزل فيه قوم إلا أصبح ذلك المنزل يصلي عليهم أو يلعنهم.
الباب الثاني في كيفية الأعمال الظاهرة ومن الصلاة والبداءة بالتكبير وما قبله ينبغي للمصلي إذا فرغ من الوضوء والطهارة من الخبث في البدن والمكان والثياب وستر العورة من السرة إلى الركبة أن ينتصب قائماً متوجهاً إلى القبلة ويزواج بين قدميه ولايضمهما فإن ذلك مما كان يستدل به على فقه الرجل وقد " نهى صلى الله عليه وسلم عن الصفن والصفد في الصلاة " والصفد هو اقتران القدمين معاً ومنه قوله تعالى " مقرنين في الأصفاد " والصفن هو رفع إحدى الرجلين ومنه قوله عز وجل " الصافنات الجياد " هذا ما يراعيه في رجليه عند القيام ويراعى في ركبتيه ومعقد نطاقه الانتصاب وأما رأسه إن شاء تركه على استواء القيام وإن شاء أطرق والإطراق أقرب للخشوع وأغض للبصر وليكن بصره محصوراً على مصلاه الذي تصلي عليه فإن لم يكن له مصلى فليقرب من جدار الحائط أو ليخط خطاً فإن ذلك يقصر مسافة البصر ويمنع تفوق الفكر وليحجر على بصره أن يجاوز أطراف المصلى وحدود الخط وليدم على هذا القيام كذلك إلى الركوع من غير التفات. هذا أدب القيام فإذا استوى قيامه واستقباله وإطراقه كذلك فليقرأ " قل أعوذ برب الناس " تحصناً به من الشيطان ثم ليأت بالإقامة وإن كان يرجو حضور من يقتدي به فليؤذن أولاً ثم ليحضر النية وهو أن ينوي في الظهر مثلاً ويقول بقلبه: أؤدي فريضة الظهر لله ليميزها بقوله أؤدى: عن القضاء وبالفريضة عن النفل وبالظهر عن العصر وغيره ولتكن معاني هذه الألفاظ حاضرة في قلبه فإنه هو النية والألفاظ مذكرات وأسباب لحضورها. ويجتهد أن يستديم ذلك إلى آخر التكبير حتى لا يعزب فإذا حضر في قلبه ذلك فليرفع يديه إلى حذو منكبيه بعد إرسالهما بحيث يحاذي بكفيه منكبيه وبإبهاميه إلى القبلة ويبسط الأصابع ولا يقبضها ولا يتكلف فيها تفريجاً ولا ضماً بل يتركها على مقتضى طبعها إذ نقل في الأثر النشر والضم وهذا بينهما فهو أولى " وإذا استقرت اليدان في مقرهما ابتدأ التكبير مع إرسالهما وإحضار النية ثم يضع اليدين على ما فوق السرة وتحت الصدر ويضع اليمنى على اليسى إكراماً لليمنى بأن تكون محمولة وينشر المسبحة والوسطى من اليمنى على طول الساعد ويقبض بالإبهام والخنصر والبنصر على كوع اليسرى وقد روي أن التكبير مع رفع اليدين ومع استقرارهما ومع الإرسال فكل ذلك لا حرج فيه وأراه بالإرسال أليق فإنه كلمة العقد ووضع إحدى اليدين على الأخرى في صورة العقد ومبدؤه الإرسال وآخره الوضع. ومبدأ التكبير الألف وآخره الراء فيليق مراعاة التطابق بين الفعل والعقد وأما رفع اليد فكالمقدمة لهذه البداية. ثم لا ينبغي أن يرفع يديه إلى قدام رفعاً عند التكبير ولا يردهما إلى خلف منكبيه ولا ينفضهما عن يمين وشمال نفضاً إذا فرغ من التكبير ويرسلهما إرسالاً خفيفاً رفيقاً ويستأنف وضع اليمين على الشمال بعد الإرسال وفي بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم " كان إذا كبر أرسل يديه وإذا أراد أن يقرأ وضع اليمنى على اليسرى " فإن صح هذا فهو أولى مما ذكرناه. وأما التكبير فينبغي أن يضم الهاء من قوله " الله " ضمة خفيفة من غير مبالغة ولا يدخل بين الهاء والألف شبه الواو وذلك ينساق إليه بالمبالغة: ولا يدخل بين باء أكبر ورائه ألفاً كأنه يقول " أكبار " ويجزم راء التكبير ولا يضمها فهذه هيئة التكبير وما معه. القراءة ثم يبتدىء بدعاء الاستفتاح وحسن أن يقول عقب قوله الله أكبر " الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً وجهت وجهي - إلى قوله - وأنا من المسلمين " ثم يقول " سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك وجل ثناؤك ولا إله غيرك " ليكون جامعاً بين متفرقات ما ورد في الأخبار. وإن كان خلف الإمام اختصر إن لم يكن للإمام سكتة طويلة يقرأ فيها ثم يقول " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " ثم يقرأ الفاتحة يبتدىء فيها ب " بسم الله الرحمن الرحيم " بتمام تشديداتها وحروفها ويجتهد في الفرق بين الضاد والظاء ويقول " آمين " في آخر الفاتحة ويمدها مداً ولا يصل " آمين " بقوله " ولا الضالين " وصلا. ويجهر بالقراءة في الصبح والمغرب والعشاء إلا أن يكون مأموماً ويجهر بالتأمين. ثم يقرأ السورة أو قدر ثلاث آيات من القرآن فما فوقها ولا يصل آخر السورة بتكبير الهوى بأن يفصل بينهما بقدر قوله " سبحان الله " ويقرأ في الصبح من السور الطوال من المفصل وفي المغرب من قصاره وفي الظهر والعصر والعشاء نحو " والسماء ذات البروج " وما قاربها. وفي الصبح في السفر " قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد " وكذلك في ركعتي الفجر والطواف والتحية وهو في جميع ذلك مستديم للقيام ووضع اليدين كما وصفنا في أول الصلاة. الركوع ولواحقه ثم يركع ويراعى فيه أموراً وهو أن يكبر للركوع وأن يرفع يديه مع تكبيرة الركوع وأن يمد التكبير مداً إلى الانتهاء إلى الركوع وأن يضع راحتيه على ركبتيه في الركوع وأصابعه منشورة موجهة نحو القبلة على طول الساق وأن ينصب ركبتيه ولا يثنيهما وأن يمد ظهره مستوياً وأن يكون عنقه ورأسه مستويين مع ظهره كالصفيحة الواحدة لا يكون رأسه أخفض ولا أرفع وأن يجافي مرفقيه عن جنبيه. وتضم المرأة مرفقيها إلى جنبيها. وأن يقول " سبحان ربي العظيم " ثلاثاً والزيادة إلى السبعة وإلى العشرة حسن إن لم يكن إماماً ثم يرتفع من الركوع إلى القيام ويرفع يديه ويقول " سمع الله لمن حمده " ويطمئن في الاعتدال ويقول " ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد " ولا يطول هذا القيام إلا في صلاة التسبيح والكسوف والصبح. ويقنت في الصبح في الركعة الثانية بالكلمات المأثورة قبل السجود. السجود ثم يهوي إلى السجود مكبراً فيضع ركبتيه على الأرض ويضع جبهته وأنفه وكفيه مكشوفة ويكبر عند الهوي ولا يرفع يديه في غير الركوع وينبغي أن يكون أول ما يقع منه على الأرض ركبتاه وأن يضع بعدهما يديه ثم يضع بعدهما وجهه وأن يضع جبهته وأنفه على الأرض وأن يجافي مرفقيه عن جنبيه: ولا تفعل المرأة ذلك. وأن يفرج بين رجليه. ولا تفعل المرأة ذلك. وأن يكون في سجوده مخوياً على الأرض. ولا تكون المرأة مخوية. والتخوية: رفع البطن عن الفخذين والتفريج بين الركبتين. وأن يضع يديه على الأرض حذاء منكبيه ولا يفرح بين أصاعهما بل يضمهما ويضم الإبهام إليهما وإن لم يضم الإبهام فلابأس ولا يفترش ذراعيه على الأرض كما يفترش الكلب فإنه منهي عنه. وأن يقول " سبحان ربي الأعلى " ثلاثاً فإن زاد فحسن إلا أن يكون إماماً. ثم يرفع من السجود فيطمئن جالساً معتدلاً فيرفع رأسه مكبراً ويجلس على رجله اليسرى وينصب قدمه اليمنى ويضع يديه على فخذيه والأصابع منشورة ولا يتكلف ضمها ولا تفريجها. ويقول " رب اغفر لي وارحمني وارزقني وأهدني واجبرني وعافني واعف عني " ولا يطول هذه الجلسة إلا في سجود التسبيح. ويأتي بالسجدة الثانية كذلك ويستوي منها جالساً جلسة خفيفة للاستراحة في كل ركعة لا تشهد عقيبها. ثم يقوم فيضع اليد على الأرض ولا يقدم إحدى رجليه في حال الارتفاع ويمد التكبير حتى يستغرق ما بين وسط ارتفاعه من القعود إلى وسط ارتفاعه إلى القيام. بحيث تكون الهاء من قوله " الله " عند استوائه جالساً وكاف " أكبر " عند اعتماده على اليد للقيام وراء " أكبر " في وسط ارتفاعه إلى القيام ويبتدىء في وسط ارتفاعه إلى القيام حتى يقع التكبير في وسط انتقاله ولا يخلو عنه إلا طرفاه وهو أقرب إلى التعميم. ويصلي الركعة الثانية كالأولى ويعيد التعوذ كالابتداء. التشهد ثم يتشهد في الركعة الثانية التشهد الأول. ثم يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى ويقبض أصابعه اليمنى إلا المسبحة ولابأس بإرسال الإبهام أيضاً ويشر بمسبحة يمناه وحدها عند قوله " إلا الله " لا عند قوله " لا إله " ويجلس في هذا التشهد على رجله اليسرى كما بين السجدتين. وفي التشهد الأخير يستكمل الدعاء المأثور بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وسننه كسنن التشهد الأول لكن يجلس في الأخير على وركه الأيسر لأنه ليس مستوفزاً للقيام بل هو مستقر ويضجع رجله اليسرى خارجة من تحته وينصب اليمنى ويضع رأس الإبهام إلى جهة القبلة إن لم يشق عليه. ثم يقول " السلام عليكم ورحمة الله " ويلتفت يميناً بحيث يرى خده الأيمن من وراءه من الجانب اليمين ويلتفت شمالاً كذلك. ويسلم تسليمة ثانية وينوي الخروج من الصلاة بالسلام وينوي بالسلام من على يمينه الملائكة والمسلمين في الأولى وينوي مثل ذلك في الثانية. ويجزم التسليم ولا يمده مداً فهو السنة. وهذه هيئة صلاة المنفرد ويرفع صوته بالتكبيرات ولا يرفع صوته إلا بقدر ما يسمع نفسه. وينوي الإمام الإمامة لينال الفضل فإن لم ينو صحت صلاة القوم إذا نووا الاقتداء ونالوا فضل الجماعة ويسر بدعاء الاستفتاح والتعوذ كالمنفرد ويجهر بالفاتحة والسورة في جميع الصبح وأولي العشاء والمغرب. وكذلك المنفرد. ويجهر بقوله " آمين " في الصلاة الجهرية وكذلك المأموم. ويقرن المأموم تأمينه بتأمين الإمام معاً لا تعقيباً. ويسكت الإمام سكتة عقيب الفاتحة ليثوب إليه نفسه ويقرأ المأموم الفاتحة في الجهرية في هذه السكتة ليتمكن من الاستماع عند قراءة الإمام. ولا يقرأ المأموم السور في الجهرية إلا إذا لم يسمع صوت الإمام. ويقول الإمام " سمع الله لمن حمده " عند رفع رأسه من الركوع وكذا المأموم. ولا يزيد الإمام على الثلاث في تسبيحات الركوع والسجود ولا يزيد في التشهد الأول بعد قوله " اللهم صل على محمد وعلى آل محمد " ويقتصر في الركعتين الأخيرتين على الفاتحة ولا يطول على القوم ولا يزيد على دعائه في التشهد الأخير على قدر التشهد والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وينوي عند السلام: السلام على القوم والملائكة. وينوي القوم بتسليمهم جوابه ويثبت الإمام ساعة حتى يفرغ الناس من السلام ويقبل على الناس بوجهه. والأولى أن يثبت إن كان خلف الرجال نساء لينصرفن قبلهن ولا يقوم واحد من القوم حتى يقوم. وينصرف الإمام حيث يشاء عن يمينه وشماله واليمين أحب إلي. ولا يخص الإمام نفسه بالدعاء في قنوت الصبح بل يقول " اللهم اهدنا " ويجهر به ويؤمن القوم ويرفعون أيديهم حذاء الصدور ويمسح لوجه عند ختم الدعاء. لحديث نقل فيه وإلا فالقياس أن لا يرفع اليد كما في آخر التشهد. المنهيات نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصفن في الصلاة والصفد وقد ذكرناهما وعن الإقعاء وعن السدل والكفت وعن الاختصار وعن الصلب وعن المواصلة وعن صلاة الحاقن والحاقب والحازق وعن صلاة الجائع والغضبان والمتلثم وهو ستر الوجه. أما الإقعاء: فهو عند أهل اللغة أن يجلس على وركيه وينصب ركبتيه ويجعل يديه على الأرض كالكلب. وعند أهل الحديث أن يجلس على ساقيه جاثياً وليس على الأرض منه إلا رءوس أصابع الرجلين والركبتين. وأما السدل: فمذهب أهل الحديث فيه أن يلتحف بثوبه ويدخل يديه من داخل فيركع ويسجد كذلك. وكان هذا فعل اليهود في صلاتهم فنهوا عن التشبه بهم. والقميص في معناه فلا ينبغي أن يركع ويسجد ويداه في بدن القميص. وقيل معناه أن يضع وسط الإزار على رأسه ويرسل طرفيه عن يمينه وشماله من غير أن يجعلهما على كتفيه. والأول أقرب. وأما الكف فهو أن يرفع ثيابه من بين يديه أو من خلفه إذا أراد السجود. وقد يكون الكف في شعر الرأس فلا يصلين وهو عاقص شعره والنهى للرجال. وفي الحديث " أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء ولا أكفت شعراً ولا ثواباً " وكره أحمد بن حنبل رضي الله عنه أن يأتزر فوق القميص في الصلاة ورآه من الكفت وأما الاختصار: فأن يضع يديه على خاصرتيه. وأما الصلب فأن يضع يديه على خاصرتيه في القيام ويجافي بين عضديه في القيام. وأما المواصلة: فهي خمسة اثنان على الإمام أن لا يصل قراءته بتكبيرة الإحرام ولا ركوعه بقراءته واثنان على المأموم أن لا يصل تكبيرة الإحرام بتكبيرة الإمام ولا تسليمه بتسليمه وواحدة بينهما أن لا يصل تسليمة الفرض بالتسليمة الثانية وليفصل بينهما وأما الحاقن: فمن البول والحاقب: من الغائط. والحازق: صاحب الخف الضيق. فإن كل ذلك يمنع من الخشوع. وفي معاه الجائع والمهتم. وفهم نهي الجائع من قوله صلى الله عليه وسلم " إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء إلا أن يضيق الوقت أو يكون ساكن القلب " وفي الخبر " لا يدخلن أحدكم الصلاة وهو مقطب ولا يصلين أحدكم وهو غضبان " وقال الحسن: كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع. وفي الحديث " سبعة أشياء في الصلاة من الشيطان: الرعاف والنعاس والوسوسة والتثاؤب والحكام والالتفات والعبث بالشيء " وزاد بعضهم " السهو والشك " وقال بعض السلف: أربعة في الصلاة من الجفاء - الالتفات ومسح الوجه وتسوية الحصى وأن تصلي بطريق من يمر بين يديك " ونهى أيضاً عن أن يشبك أصابعه أو يفرقع أصابعه أو يستر وجهه أو يضع إحدى كفيه على الأخرى يدخلهما بين فخذيه في الركوع " وقال بعض الصحابة رضي الله عنهم: كنا نفعل ذلك فنهينا عنه. ويكره أيضاً أن ينفخ في الأرض عند السجود للتنظيف وأن يسوي الحصى بيده فإنها أفعال مستغنى عنها ولا يرفع إحدى قدميه فيضها على فخذه ولا يستند في قيامه إلى حائط فإن استند بحيث لوسل تمييز الفرائض والسنن جملة ما ذكر يشتمل على فرائض وسنن وآداب وهيئات مما ينبغي لمريد طريق الآخرة أن يراعي جميعها. فالفرض من جملتها اثنتا عشرة خصلة: النية والتكبير والقيام والفاتحة والانحناء في الركوع إلى أن تنال راحتاه ركبتيه مع الطمأنينة والاعتدال عنه قائماً والسجود مع الطمأنينة ولا يجب وضع اليدين والاعتدال عنه قاعداً والجلوس للتشهد الأخير والتشهد الأخير والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والسلام الأول. فأمانية الخروج فلا تجب وما عدا هذا فليس بواجب بل هي سنن وهيئات فيها وفي الفرائض: أما السنن فمن الأفعال أربعة: رفع اليدين في تكبيرة الإحرام وعند الهوي إلى الركوع وعند الارتفاع إلى القيام والجلسة للتشهد الأول. فأما ما ذكرناه من كيفية نشر الأصابع وحد رفعها فهي هيئات تابعة لهذه السنة والتورك والافتراش هيئات تابعة للجلسة والإطراق وترك الالتفات هيئات للقيام وتحسين صورته وجلسة الاستراحة لم نعدها من أصول السنة في الأفعال لأنها كالتحسين لهيئة الارتفاع من السجود إلى القيام لأنها ليست مقصودة في نفسها ولذلك لم تفرد بذكر. وأما السنن من الأذكار فدعاء الاستفتاح ثم التعوذ ثم قوله " آمين " فإنه سنة مؤكدة ثم قراءة السورة ثم تكبيرات الانتقالات ثم الذكر في الركوع والسجود والاعتدال عنهما ثم التشهد الأول والصلاة فيه على النبي صلى الله عليه وسلم ثم الدعاء في آخر التشهد الأخير ثم التسليمة الثانية وإن جمعناها في اسم السنة فلها درجات متفاوتة إذ تجبر أربعة منها بسجود السهو. وأما من الأفعال فواحدة: وهي الجلسة الأولى للتشهد الأول فإنها مؤثرة في ترتيب نظم الصلاة في أعين الناظرين حتى يعرف بها أنها رباعية أم لا بخلاف رفع اليدين فإنه لا يؤثر في تغيير النظم فعبر عن ذلك بالبعض. وقيل الأبعاض تجبر بالسجود: وأما الأذكار فكلها لا تقتضي سجود السهو إلا ثلاثة: القنوت والتشهد الأول والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه بخلاف تكبيرات الانتقالات وأذكار الركوع والسجود والاعتدال عنهما لأن الركوع والسجود في صورتهما مخالفان للعادة ويحصل بهما معنى العبادة مع السكوت عن الأذكار وعن تكبيرات الانتقالات فعدم تلك الأذكار لا تغير صورة العبادة. وأما الجلسة للتشهد الأول ففعل معتاد وما زيدت إلا للتشهد فتركها ظاهر التأثير. وأما دعاء الاستفتاح والسورة فتركهما لا يؤثر مع أن القيام صار معموراً بالفاتحة ومميزاً عن العادة بها وكذلك الدعاء في التشهد الأخير والقنوت أبعد ما يجبر بالسجود ولكن شرع مد الاعتدال في الصبح لأجله فكان كمد جلسة الاستراحة إذ صارت بالمد مع التشهد جلسة للتشهد الأول. فبقي هذا قياماً ممدوداً معتاداً ليس فيه ذكر واجب وفي الممدود احتراز عن غير الصبح وفي خلوه عن ذكر واجب احتراز عن أصل القيام في الصلاة. فإن قلت: تمييز السنن عن الفرائض معقول إذ تفوت الصحة بفوت الفرض دون السنة ويتوجه العقاب به دونها فأما تمييز سنة عن سنة والكل مأمور به على سبيل الاستحباب ولا عقاب في ترك الكل والثواب موجود على الكل فما معناه فاعلم أن اشتراكهما في الثواب والعقاب والاستحباب لا يرفع تفاوتهما ولنكشف ذلك لك بمثال: وهو أن الإنسان لا يكون إنساناً موجوداً كاملاً إلا بمعنى باطن وأعضاء ظاهرة فالمعنى الباطن هو الحياة والروح والظاهر أجسام أعضائه. ثم بعض تلك الأعضاء ينعدم الإنسان بعدمها كالقلب والكبد والدماغ وكل عضو تفوت الحياة بفواته وبعضها لا تفوت بها الحياة ولكن يفوت بها مقاصد الحياة كالعين واليد والرجل واللسان وبعضها لا يفوت بها أصل الجمال ولكن كماله كاستقواس الحاجبين وسواد شعر اللحية والأهداب وتناسب خلقة الأعضاء وامتزاج الحمرة بالبياض في اللون فهذه درجات متفاوتة فكذلك العبادة صورة صورها الشرع وتعبدنا باكتسابها فروحها وحياتها الباطنة الخشوع والنية وحضور القلب والإخلاص - كما سيأتي - ونحن الآن في أجزائها الظاهرة فالركوع والسجود والقيام وسائر الأركان تجري منها مجرى القلب والرأس والكبد إذ يفوت وجود الصلاة بفواتها. والسنن التي ذكرناها من رفع اليدين ودعاء الاستفتاح والتشهد الأول تجري منها مجرى اليدين والعينين والرجلين ولا تفوت الصحة بفواتها كما لا تفوت الحياة بفوات هذه الأعضاء ولكن يصير الشخص بسبب فواتها مشوه الخلقة مذموماً غير مرغوب فيه فكذلك من اقتصر على أقل ما يجزي من الصلاة كان كمن أهدى إلى ملك من الملوك عبداً حياً مقطوع الأطراف. وأما الهيئات وهي ما وراء السنن فتجري مجرى أسباب الحسن من الحاجبين واللحية والأهداب وحسن اللون وأما وظائف الأذكار في تلك السنن فهي مكملات للحسن كاستقواس الحاجبين واستدارة اللحية وغيرهما. فالصلاة عندك قربة وتحفة تتقرب بها إلى حضرة ملك الملوك كوصيفة يهيدها طالب القربة من السلاطين إليهم وهذه التحفة تعرض على الله عز وجل. ثم ترد عليك يوم العرض الأكبر فإليك الخيرة في تحسين صورتها وتقبيحها. فإن أحسنت فلنفسك وإن أسأت فعليها. ولا ينبغي أن يكون حظك من ممارسة الفقه أن يتميز لك السنة عن الفرض فلا يعلق بفهمك من أوصاف السنة إلا أنه يجوز تركها فتتركها فإن ذلك يضاهي قول الطبيب: إن فقء العين لا يبطل وجود الإنسان ولكن يخرجه عن أن يصدق رجاء المتقرب في قبول السلطان إذا أخرجه في معرض الهدية - فهكذا ينبغي أن تفهم مراتب السنن والهيئات والآداب فكل صلاة لم يتم الإنسان ركوعها وسجودها فهي الخصم الأول على صاحبها تقول: ضيعك الله كما ضيعتني. فطالع الأخبار التي أوردناها في كمال أركان الصلاة ليظهر لك وقعها. الباب الثالث في الشروط الباطنة من أعمال القلب ولنذكر في هذا الباب ارتباط الصلاة بالخشوع وحضور القلب. ثم نذكر المعاني الباطنة وحدودها وأسبابها وعلاجها. ثم لنذكر تفصيل ما ينبغي أن يحضر في كل ركن من أركان الصلاة لتكون صالحة لزاد الآخرة. بيان اشتراط الخشوع وحضور القلب اعلم أن أدلة ذلك كثيرة فمن ذلك قوله تعالى " أقم الصلاة لذكري " وظاهر الأمر الوجوب والغفلة عن تضاد الذكر فمن غفل في جميع صلاته كيف يكون مقيماً للصلاة لذكره وقوله تعالى " ولا تكن من الغافلين " نهي وظاهره التحريم وقوله عز وجل " حتى تعلموا ما تقولون " تعليل لنهي السكران وهو مطرد في الغافل المستغرق الهم بالوسواس وأفكار الدنيا وقوله صلى الله عليه وسلم " إنما الصلاة تمسكن وتواضع " حصر بالألف واللام وكلمة " إنما " للتحقيق والتوكيد وقد فهم الفقهاء من قوله عليه السلام " إنما الشفعة فيما لم يقصر " الحصر والإثبات والنفي وقوله صلى الله عليه وسلم " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً " وصلاة الغافل لا تمنع من الفحشاء والمنكر وقال صلى الله عليه وسلم " ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها " والتحقيق فيه أن المصلي مناج ربه عز وجل " كما ورد به الخبر والكلام مع الغفلة ليس بمناجاة ألبتة وبيانه أن الزكاة إن غفل الإنسان عنها مثلاً فهي في نفسها مخالفة للشهوة شديدة على النفس وكذا الصوم قاهر للقوى كاسر لسطوة الهوى الذي هو آلة للشيطان عدو الله فلا يبعد أن يحصل منها مقصود مع الغفلة وكذلك الحج أفعاله شاقة شديدة وفيه من المجاهدة ما يحصل به الإيلام كان القلب حاضراً مع أفعاله أو لم يكن أما الصلاة فليس فيها إلا ذكر وقراءة وركوع وسجود وقيام وقعود فأما الذكر فإنه مجاورة ومناجاة مع الله عز وجل فأما أن يكون المقصود مه كونه خطاباً ومحاورة أو المقصود منه الحروف والأصوات إمتحاناً للسان بالعلم كما تمتحن المعدة والفرج بالإمساك في الصوم وكما يمتحن البدن بمشاق الحج ويمتحن بمشقة إخراج الزكاة واقتطاع المال المعشوق. ولاشك أن هذا القسم باطل فإن تحريك اللسان بالهذيان ما أخفه على الغافل فليس فيه امتحان من حيث أنه عمل بل المقصود الحروف من حيث أنه نطق ولا يكون نطقاً إلا إذا أعرب عما في الضمير ولا يكون معرباً إلا بحضور القلب فأي سؤال في قوله " إهدنا الصراط المستقيم " إذا كان القلب غافلاً وإذا لم يقصد كونه تضرعاً ودعاء فأي مشقة في تحريك اللسان به مع الغفلة لاسيما بعد الاعتياد هذا حكم الأذكار بل أقول لو حلف الإنسان وقال: لأشكرن فلاناً وأثنى عليه وأسأله حاجة ثم جرت الألفاظ الدالة على هذه المعاني على لسانه في النوم لم يبر في يمينه ولو جرت على لسانه في ظلمة وذلك الإنسان حاضر وهو لا يعرف حضوره ولا يراه لا يصير باراً في يمينه إذ لا يكون كلامه خطاباً ونطقاً معه ما لم يكن هو حاضراً في قلبه فلو كانت تجري هذه الكلمات على لسانه وهو حاضر إلا أنه في بياض النهار غافل لكونه مستغرق الهم بفكر من الأفكار ولم يكن له قصد توجيه الخطاب إليه عند نطقه لم يصر باراً في يمينه. ولاشك أن المقصود من القراءة والأذكار الحمد والثناء والتضرع والدعاء والمخاطب هو الله عز وجل وقلبه بحجاب الغفلة محجوب عنه فلا يراه ولا يشاهده بل هو غافل عن المخاطب ولسانه يتحرك بحكم العادة فما أبعد هذا عن المقصود بالصلاة التي شرعت لتصقيل القلب وتجديد ذكر الله عز وجل ورسوخ عقد الإيمان به! هذا حكم القراءة والذكر. وبالجملة فهذه الخاصية لا سبيل إلى إنكارها في النطق وتمييزها عن الفعل. وأما الركوع والسجود فالمقصود بهما التعظيم قطعاً ولو جاز أن يكون معظماً لله عز وجل بفعله وهو غافل عنه لجاز أن يكون معظماً لصنم موضوع بين يديه وهو غافل عنه أو يكون معظماً للحائط الذي بين يديه وهو غافل عنه وإذا خرج عن كونه تعظيماً لم يبق إلا مجرد حركة الظهر والرأس وليس فيه من المشقة ما يقصد الامتحان به ثم يجعله عماد الدين والفاصل بين الكفر والإسلام ويقدم على الحج وسائر العبادات ويجب القتل بسبب تركه على الخصوص وما أرى أن هذه العظمة كلها للصلاة من حيث أعمالها الظاهرة إلا أن يضاف إليها مقصود المناجاة فإن ذلك يتقدم على الصوم والزكاة والحج وغيره بل الضحايا والقرابين التي هي مجاهدة للنفس بتنقيص المال قال الله تعالى " لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم " أي الصفة التي استولت على القلب حتى حملته على امتثال الأوامر هي المطلوبة فكيف الأمر في الصلاة ولا أرب في أفعالها فهذا ما يدل من حيث المعنى على اشتراط حضور القلب. فإن قلت: إن حكمت ببطلان الصلاة وجعلت حضور القلب شرطاً في صحتها خالفت إجماع الفقهاء فإنهم لم يشترطوا إلا حضور القلب عند التكبير فاعلم أنه قد تقدم في كتاب العلم: أن الفقهاء لا يتصرفون في الباطن ولا يشقون عن القلوب ولا في طريق الآخرة بل يبنون أحكام الدين على ظاهر أعمال الجوارح وظاهر الأعمال كاف لسقوط القتل وتعزير السلطان فأما أنه ينفع في الآخرة فليس هذا من حدود الفقه على أنه لا يمكن أن يدعى الإجماع. فقد نقل عن بشر بن الحارث فيما رواه عنه أبو طالب المكي عن سفيان الثوري أنه قال: من لم يخشع فسدت صلاته وروي عن الحسن أنه قال: كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع. وع معاذ بن جبل: من عرف من على يمينه وشماله متعمداً وهو في الصلاة فلا صلاة له. وروي أيضاً مسنداً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن العبد لصلي الصلاة لا يكتب له سدسها ولا عشرها وإنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها " وهذا لو نقل عن غيره لجعل مذهباً فكيف لا يتمسك به وقال عبد الواحد بن زيد: أجمعت العلماء على أنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها فجعله إجماعاً وما نقل من هذا الجنس عن الفقهاء المتورعين وعن علماء الآخرة أكثر من أن يحصى. والحق الرجوع إلى أدلة الشرع والأخبار والآثار ظاهرة في هذا الشرط إلا أن مقام الفتوى في التكليف الظاهر يتقدر بقدر قصور الخلق. فلا يمكن أن يشترط على الناس إحضار القلب في جميع الصلاة فإن ذلك يعجز عنه كل البشر إلا الأقلين وإذا لم يمكن اشتراط الاستيعاب للضرورة فلا مرد له إلا أن يشترط منه ما يطلق عليه الاسم ولو في اللحظة الواحدة وأولى اللحظات به لحظة التكبير فاقتصرنا على التكليف بذلك. ونحن مع ذلك نرجو أن لا يكون حال الغافل في جميع صلاته مثل حال التارك بالكلية. فإنه على الجملة أقدم على العمل ظاهراً وأحضر القلب لحظة. وكيف لا والذي صلى مع الحدث ناسياً صلاته باطلة عند الله تعالى ولكن له أجر ما بحسب فعله وعلى قدر قصوره وعذره ومع هذا الرجاء فيخشى أن يكون حاله أشد من حال التارك وكيف لا والذي يحضر الخدمة ويتهاون بالحضرة ويتكلم بكلام الغافل المستحقر أشد حالاً من الذي يعرض عن الخدمة وإذا تعارض أسباب الخوف والرجاء وصار الأمر محظراً في نفسه فإليك الخيرة بعده في الاحتياط والتساهل. ومع هذا فلا مطمع في مخالفة الفقهاء فيما أفتوا به من الصحة مع الغفلة فإن ذلك من ضرورة الفتوى - كما سبق التنبيه عليه - ومن عرف سر الصلاة علم أن الغفلة تضادها. ولكن قد ذكرنا في باب الفرق بين العلم الباطن والظاهر في كتاب قواعد العقائد أن قصور الخلق أحد الأسباب المانعة عن التصريح بكل ما ينكشف من أسرار الشرع. فلنقتصر على هذا القدر من البحث فإن فيه مقنعاً للمريد الطالب لطريق الآخرة. وأما المجادل المشغب فلسنا نقصد مخاطبته الآن وحاصل الكلام أن حضور القلب هو روح الصلاة وأن أقل ما يبقى به رمق الروح الحضور عند التكبير. فالنقصان منه هلاك وبقدر الزيادة عليه تنبسط الروح في أجزاء الصلاة. وكم من حي لا حراك به قريب من ميت فصلاة الغافل في جميعها إلا عند التكبير كمثل حي لا حراك به نسأل الله حسن العون بيان المعاني الباطنة التي تتم بها حياة الصلاة إعلم أن هذه المعاني تكثر العبارات عنها ولكن يجمعها ست جمل وهي: حضور القلب والتفهم والتعظيم والهيبة والرجاء والحياء. فلنذكر تفاصيلها ثم أسبابها ثم العلاج في اكتسابها. أما التفاصيل: فالأول حضور القلب ونعني به أن يفرغ القلب عن غير ما هو ملابس له ومتكلم به فيكون العلم بالفعل والقول مقروناً بهما ولا يكون الفكر جائلاً في غيرهما ومهما انصرف في الفكر عن غير ما هو فيه وكان في قلبه ذكر لما هو فيه ولم يكن فيه غفلة عن كل شيء فقد حصل حضور القلب ولكن التفهم لمعنى الكلام أمر وراء حضور القلب فربما يكون القلب حاضراً مع اللفظ ولا يكون حاضراً مع معنى اللفظ فاشتمال القلب على العم بمعنى اللفظ هو الذي أردناه بالتفهم. وهذا مقام يتفاوت الناس فيه إذ ليس يشترك الناس في تفهم المعاني للقرآن والتسبيحات. وكم من معان لطيفة يفهمها المصلي في أثناء الصلاة ولم يكن قد خطر بقلبه ذلك قبله ومن هذا الوجه كانت الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر فإنها تفهم أموراً تلك الأمور تمنع عن الفحشاء لا محالة. وأما التعظيم فهو أمر وراء حضور القلب والفهم إذ الرجل يخاطب عبده بكلام هو حاضر القلب فيه ومتفهم لمعناه ولا يكون معظماً له فالتعظيم زائد عليهما. وأما الهيبة فزائدة على التعظيم بل هي عبارة عن خوف منشؤه التعظيم لأن من لا يخاف لا يسمى هائباً والمخافة من العقرب وسوء خلق العبد وما يجري مجراه من الأسباب الخسيسة لا تسمى مهابة بل الخوف من السلطان المعظم يسمى مهابة والهيبة وف مصدرها الإجلال. وأما الرجا فلا شك أنه زائد فكم من معظم ملكاً من الملوك يهابه أو يخاف سطوته ولكن لا يرجو مثوبته. والعبد ينبغي أن يكون راجياً بصلاته ثواب الله عز وجل كما أنه خائف بتقصيره عقاب الله عز وجل وأما الحياء فهو زئد على الجملة لأن مستنده استشعار تقصير وتوهم ذنب ويتصور التعظيم والخوف والرجاء من غير حياء حيث لا يكون توهم تقصير وارتكاب ذنب. وأما أسباب هذه المعاني الستة فاعلم أن حضور القلب سببه الهمة فإن قلبك تابع همتك فلا يحضر إلا فيما يهمك. ومهما أهمك أمر حضر القلب فيه شاء أم أبى فهو مجبول على ذلك ومسخر فيه. والقلب إذا لم يحضر في الصلاة لم يكن متعطلاً بل جائلاً فيما الهمة مصروفة إليه من أمور الدنيا فلا حيلة ولا علاج لإحضار القلب إلا بصرف الهمة إلى الصلاة والهمة لا تنصرف إليها ما لم يتبين أن الغرض المطلوب منوط بها وذلك هو الإيمان والتصديق بأن الآخرة خير وأبقى وأن الصلاة وسيلة إليها فإذا أضيف هذا إلى حقيقة العلم بحقارة الدنيا ومهماتها حصل من مجموعها حضور القلب في الصلاة وبمثل هذه العلة يحضر قلبك إذا حضرت بين يدي بعض الأكابر ممن لا يقدر على مضرتك ومنفعتك فإذا كان لا يحضر عند المناجاة مع ملك الملوك الذي بيده الملك والملكوت والنفع والضر فلا تظنن أن له سبباً سوى ضعف الإيمان فاجتهد الآن في تقوية الإيمان - وطريقه يستقصى في غير هذا الموضع - وأما التفهم فسبب بعد حضور القلب إدمان الفكر وصرف الذهن إلى إدراك المعنى وعلاجه ما هو علاج إحضار القلب مع الإقبال على الفكر والتشمر لدفع الخواطر. وعلاج دفع الخواطر الشاغلة قطع موادها أعني النزوع عن تلك الأسباب التي تنجذب الخواطر إليها وما لم تنقطع تلك المواد لا تنصرف عنها الخواطر فمن أحب شيئاً أكثر من ذكره فذكر المحبوب يهجم على القلب بالضرورة لذلك ترى أن من أحب غير الله لا تصفو له صلاة عن الخواطر. وأما التعظيم فهي حالة للقلب تتولد من معرفتين إحداهما: معرفة جلال الله عز وجل وعظمته وهو من أصول الإيمان فإن من لا يعتقد عظمته لا تذعن النفس لتعظيمه. الثانية معرفة حقارة النفس وخستها وكوها عبداً مسخراً مربوباً حتى يتولد من المعرفتين الاستكانة والانكسار والخشوع لله سبحانه فيعبر عنه بالتعظيم وما لم تمتزج معرفة حقارة النفس بمعرفة جلال الله لا تنتظم حالة التعظيم والخشوع فإن المستغني عن غيره الآمن على نفسه يجوز أن يعرف من غيره صفات العظمة ولا يكون الخشوع والتعظيم حاله لأن القرينة الأخرى وهي معرفة حقارة النفس وحاجتها لم تقترن إليه وأما الهيبة والخوف فحالة للنفس تتولد من المعرفة بقدرة الله وسطوته ونفوذ مشيئته فيه مع قلة المبالاة به وأنه لو أهلك الأولين والآخرين لم ينقص من ملكه ذرة هذا مع مطالعة ما يجري على الأنبياء والأولياء من المصائب وأنواع البلاء مع القدرة على الدفع على خلاف ما يشاهد من ملوك الأرض. وبالجملة كلما زاد العلم بالله زادت الخشية والهيبة - وسيأتي أسباب ذلك في كتاب الخوف من ربع المنجيات - وأما الرجاء فسببه معرفة لطف الله عز وجل وكرمه وعميم إنعامه ولطائف صنعه ومعرفة صدقه في وعده الجنة بالصلاة فإذا حصل اليقين بوعده والمعرفة بلطفه انبعث من مجموعهما الرجاء لا محالة: وأما الحياء فباستشعاره التقصير في العبادة وعلمه بالعجز عن القيام بعظيم حق الله عز وجل ويقوى ذلك بالمعرفة بعيوب النفس وآفاتها وقلة إخلاصها وخبث دخلتها وميلها إلى الحظ العاجل في جميع أفعالها مع العلم بعظيم ما يقتضيه جلال الله عز وجل والعلم بأنه مطلع على السر وخطرات القلب وإن دقت وخفيت وهذه المعارف إذا حصلت يقيناً انبعث منها بالضرورة حالة تسمى الحياء فهذه أسباب هذه الصفات وكل ما طلب تحصيله فعلاجه إحضار سببه ففي معرفة السبب معرفة العلاج. ورابطة جميع هذه الأسباب الإيمان. واليقين أعني به هذه المعارف التي ذكرناها ومعنى كونها يقيناً انتفاء الشك واستيلاؤها على القلب كما سبق في بيان اليقين من كتاب العلم - وبقدر اليقين يخشع القلب ولذلك قالت عائشة صلى الله عليه وسلما " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا ونحدثه فإذا حضرت الصلاة كأنه لم يعرفنا ولم نعرفه " وقد روي أن الله سبحانه أوحى إلى موسى عليه السلام " يا موسى إذا ذكرتني فاذكرني وأنت تنتفض أعضاؤك وكن عند ذكري خاشعاً مطمئناً وإذا ذكرتني فاجعل لسانك من وراء قلبك وإذا قمت بين يدي فقم قيام العبد الذليل وناجني بقلب وجل ولسان صادق " وروي أن الله تعالى أوحى إليه " قل لعصاة أمتك لا يذكروني فإني آليت على نفسي أن من ذكرني ذكرته فإذا ذكروني ذكرتهم باللعنة " هذا في عاص غير غافل في ذكره فكيف إذا اجتمعت الغفلة والعصيان وباختلاف المعاني التي ذكرناها في القلوب انقسم الناس إلى غافل يتمم صلاته ولم يحضر قلبه في لحظة منها. وإلى من يتمم ولم يغب قلبه في لحظة بل ربما كان مستوعب الهم بها بحيث لا يحس بما يجري بين يديه. ولذلك لم يحس مسلم بن يسار بسقوط الاسطوانة في المسجد اجتمع الناس عليها. وبعضهم كان يحضر الجماعة مدة ولم يعرف قط من على يمينه ويساره. ووجيب قلب إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه كان يسمع على ميلين. وجماعة كانت تصفر وجوههم وترتعد فرائصهم. وكل ذلك غير مستبعد فإن أضعافه مشاهد في همم أهل الدنيا وخوف ملوك الدنيا مع عجزهم وضعفهم وخساسة الحظوظ الحاصلة منهم حتى يدخل الواحد على ملك أو وزير ويحدثه بمهمته ثم يخرج ولو سئل عمن حواليه أو عن ثوب الملك لكان لا يقدر على الإخبار عنه لاشتغال همه به عن ثوبه وعن الحاضرين حواليه " ولكل درجات مما عملوا " فحظ كل واحد من صلاته بقدر خوفه وخشوعه وتعظيمه فإن موقع نظر الله سبحانه القلوب دون ظاهر الحركات. ولذلك قال بعض الصحابة رضي الله عنهم: يحشر الناس يوم القيامة على مثال هيئتهم في الصلاة من الطمأنينة والهدوء ومن وجود النعيم بها واللذة ولقد صدق فإنه يحشر كل على ما مات عليه ويموت على ما عاش عليه: ويراعى في ذلك حال قلبه لا حال شخصه فمن صفات القلوب تصاغ الصور في الدار الآخرة ولا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم نسأل الله حسن التوفيق بلطفه وكرمه
بيان الدواء النافع في حضور القلب اعلم أن المؤمن لابد أن يكون معظماً لله عز وجل وخائفاً منه وراجياً له ومستحيياً من تقصيره فلا ينفك عن هذه الأحوال بعد إيمانه وإن كانت قوتها بقدر قوة يقينه فانفكاكه عنها في الصلاة لا سبب له إلا تفرق الفكر وتقسيم الخاطر وغيبة القلب عن المناجاة والغفلة عن الصلاة. ولا يلهي عن الصلاة إلا الخواطر الواردة الشاغلة فالدواء في إحضار القلب هو دفع تلك الخواطر ولا يدفع الشيء إلا بدفع سببه فلتعلم سببه. وسبب موارد الخواطر إما أن يكون أمراً خارجاً أو أمراً في ذاته باطناً. أما الخارج فما يقرع السمع أو يظهر للبصر فإن ذلك قد يختطف الهم حتى يتبعه ويتصرف فيه ثم تنجر منه الفكرة إلى غيره ويتسلسل ويكون الإبصار سبباً للافتكار ثم تصير بعض تلك الأفكار سبباً للبعض. ومن قويت نيته وعلت همته لم يلهه ما جرى على حواسه ولكن الضعيف لابد وأن يتفرق به فكره. وعلاجه قطع هذه الأسباب بأن يغض بصره أو يصلي في بيت مظلم أو لا يترك بين يديه ما يشغل حسه ويقرب من حائط عند صلاته حتى لا تتسع مسافة بصره ويحترز من الصلاة على الشوارع وفي المواضع المنقوشة المصنوعة وعلى الفرش المصبوغة. ولذلك كان المتعبدون يتعبدون في بيت صغير مظلم سعته قدر السجود ليكون ذلك أجمع للهم. والأقوياء منهم كانوا يحضرون المساجد ويغضون البصر ولا يجاوزون به موضع السجود ويرون كمال الصلاة في أن لا يعرفوا من على يمينهم وشمالهم. وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يدع في موضع الصلاة مصحفاً ولا سيفاً إلا نزعه ولا كتاباً إلا محاه. وأما الأسباب الباطنة فهي أشد فإن من تشعبت به الهموم في أودية الدنيا لا ينحصر فكره في فن واحد بل لا يزال يطير من جانب إلى جانب وغض البصر لا يغنيه فإن ما وقع في القلب من قبل كاف للشغل فهذا طريقه أن يرد النفس قهراً إلى فهم ما يقرؤه في الصلاة ويشغلها به عن غيره ويعينه على ذلك أن يستعد له قبل التحريم بأن يحدد على نفسه ذكر الآخرة وموقف المناجاة وخطر المقام بين يدي الله سبحانه وهو المطلع ويفرغ قلبه قبل التحريم بالصلاة عما يهمه فلا يترك لنفسه شغلاً يلتفت إليه خاطره. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان بن أبي شيبة " إني نسيت أن أقول لك أن تخمر القدر الذي في البيت " فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل الناس عن صلاتهم فهذا طريق تسكين الأفكار. فإن كان لا يسكن هوائج أفكاره بهذا الدواء المسكن فلا ينجيه إلا المسهل الذي يقمع مادة الداء من أعماق العروق وهو أن ينظر في الأمور الصارفة الشاغلة عن إحضار القلب ولاشك أنها تعود إلى مهماته وأنها إنما صارت مهمات لشهواته فيعاقب نفسه بالنزوع عن تلك الشهوات وقطع تلك العلائق فكل ما يشغله عن صلاته فهو ضد دينه وجند إبليس عدوه فإمساكه أضر عليه من إخرجه فيتخلص منه بإخراجه كما روي أنه صلى الله عليه وسلم " لما لبس الخميصة التي أتاه بها أبو جهم وعليها علم وصلى بها نزعها بعد صلاته وقال صلى الله عليه وسلم " اذهبوا بها إلى أبي جهم فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي وائتوني بأنبجانية أبي جهم ". وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجديد شراك نعله ثم نظر إليه في صلاته إذ كان جديداً فأمر أن ينزع منها ويرد الشراك الخلق. " وكان صلى الله عليه وسلم قد احتذى نعلاً فأعجبه حسنها فسجد وقال: تواضعت لربي عز وجل كي لا يمقتني " ثم خرج بها فدفعها إلى أول سائل لقيه ثم أمر علياً رضي الله عنه أن يشتري له نعلين سبتيتين جرداوين فلبسهما. وكان صلى الله عليه وسلم في يده خاتم م ذهب قبل الترحيم وكان على المنبر فرماه وقال شغلني هذا: نظرة إليه ونظرة إليكم وروي " أن أبا طلحة صلى في حائط وفيه شجر فأعجبه دبسي طار في الشجر يلتمس مخرجاً فأتبعه بصره ساعة ثم لم يدر كم صلى فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصابه من الفتنة ثم قال: يا رسول الله هو صدقة فضعه حيث شئت ". وعن رجل آخر أنه صلى في حائط له والنخل مطوقة بثمرها فنظر إليها فأعجبته ولم يدر كم صلى فذكر ذلك لعثمان رضي الله عنه وقال: هو صدقة فاجعله في سبيل الله عز وجل فباعه عثمان بخمسين ألفاً. فكانوا يفعلون ذلك قطعاً لمادة الفكر وكفارة لما جرى من نقصان الصلاة وهذا هو الدواء القاطع لمادة العلة ولا يغني غيره. فأما ما ذكرناه من التلطف بالتسكين والرد إلى فهم الذكر فذلك ينفع في الشهوات الضعيفة والهمم التي لا تشغل إلا حواشي القلب. فأما الشهوة القوية المرهقة فلا ينفع فيها التسكين بل لا تزال تجاذبها وتجاذبك ثم تغلبك وتنقضي جميع صلاتك في شغل المجاذبة. ومثاله: رجل تحت شجرة أراد أن يصفو له فكره وكانت أصوات العصافير تشوش عليه فلم يزل يطيرها بخشبة في يده ويعود إلى فكره فتعود العصافير فيعود إلى التنفير بالخشبة فقيل له: إن هذا أسير السواني ولا ينقطع فإن أردت الخلاص فاقطع الشجرة. فكذلك شجرة الشهوات إذا تشعبت وتفرعت أغصانها انجذبت إليها الأفكار انجذاب العصافير إلى الأشجار وانجذاب الذباب إلى الأقذار والشغل يطول في دفعها فإن الذباب كلما ذب آب ولأجله سمي ذباباً. فكذلك الخواطر وهذه الشهوات كثيرة وقلما يخلو العبد عنها ويجمعها أصل واحد وهو حب الدنيا وذلك رأس كل خطيئة وأساس كل نقصان ومنبع كل فساد. ومن انطوى باطنه على حب الدنيا حتى مال إلى شيء منها لا ليتزود منها ولا ليستعين بها على الآخرة فلا يطمعن في أن تصفو له لذة المناجاة في الصلاة. فإن من فرح بالدنيا لا يفرح بالله سبحانه وبمناجاته. وهمة الرجل مع قرة عينه فإن كانت قرة عينه في الدنيا انصرف لا محالة إليها همه ولكن مع هذا فلا ينبغي أن يترك المجاهدة ورد القلب إلى الصلاة وتقليل الأسباب الشاغلة فهذا هو الدواء المر ولمرارته استبشعته الطباع وبقيت العلة مزمنة وصار الداء عضالاً حتى إن الأكابر اجتهدوا أن يصلوا ركعتين لا يحدثوا أنفسهم فيها بأمور الدنيا فعجزوا عن ذلك فإذن لا مطمع فيه لأمثالنا وليته سلم لنا من الصلاة شطرها أو ثلثها من الوسواس لنكون ممن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً. وعلى الجملة فهمة الدنيا وهمة الآخرة في القلب مثل الماء الذي يصب في قدح مملوء بخل فبقدر ما يدخل فيه من الماء يخرج منه من الخل لا محالة ولا يجتمعان. بيان تفصيل ما ينبغي أن يحضر في القلب عند كل ركن وشرط - من أعمال الصلاة فنقول: حقك إن كنت من المريدين للآخرة أن لا تغفل أولاً عن التنبيهات التي في شروط الصلاة وأركانها. أما الشروط السوابق فهي الأذان والطهارة وستر العورة واستقبال القبلة والانتصاب قائماً والنية. فإذا سمعت نداء المؤذن فأحضر في قلبك هول النداء يوم القيامة وتشمر بظاهرك وباطنك للإجابة والمسارعة فإن المسارعين إلى هذا النداء هم الذين ينادون باللطف يوم العرض الأكبر فاعرض قلبك على هذا النداء فإن وجدته مملوءاً بالفرح والاستبشار مشحوناً بالرغبة إلى الابتدار فاعلم أنه يأتيك النداء بالبشرى والفوز يوم القضاء. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم " أرحنا يا بلال " أي أرحنا بها وبالنداء إليها إذ كان قرة عينه فيها صلى الله عليه وسلم. وأما الطهارة فإذا أتيت بها في مكانك وهو ظرفك الأبعد ثم في ثيابك وهي غلافك الأقرب ثم في بشرتك وهي قشرك الأدنى فلا تغفل عن لبك الذي هو ذاتك وهو قلبك فاجتهد له تطهيراً بالتوبة والندم على ما فرطت وتصميم العزم على الترك في المستقبل فطهر بها باطنك فإنه موضع نظر معبودك. وأما ستر العورة فاعلم أن معناه تغطية مقابح بدنك عن أبصار الخلق فإن ظاهر بدنك موقع لنظر الخلق فما بالك في عورات باطنك وفضائح سرائرك التي لا يطلع عليها إلا ربك عز وجل فأحضر تلك الفضائح ببالك وطالب نفسك بسترها وتحقق أنه لا يستر عن عين الله سبحانه ساتر. وإنما يغفرها الندم والحياء والخوف فتستفيد بإحضارها في قلبك انبعاث جنود الخوف والحياء من مكامنهما فتدل بها بنفسك ويستكين تحت الخجلة قلبك وتقوم بين يدي الله عز وجل قيام العبد المجرم المسيء الآبق الذي ندم فرجع إلى مولاه ناكساً رأسه من الحياء والخوف. وأما الاستقبال فهو صرف ظاهر وجهك عن سائر الجهات إلى جهة بيت الله تعالى أفترى أن صرف القلب عن سائر الأمور إلى الله عز وجل ليس مطلوباً منك هيهات فلا مطلوب سواه. وإنما هذه الظواهر تحريكات للبواطن وضبط للجوارح وتسكين لها بالإثبات في جهة واحدة حتى لا تبيغ على القلب فإنها إذا بغت وظلمت في حركاتها والتفاتها إلى جهاتها استتبعت القلب وانقلبت به عن وجه الله عز وجل فليكن وجه قلبك مع وجه بدنك. فاعلم أنه كما لا يتوجه الوجه إلى جهة البيت إلا بالانصراف عن غيرها فلا ينصرف القلب إلى الله عز وجل إلا بالتفرغ عما سواه وقد قال صلى الله عليه وسلم " إذا قام العبد إلى صلاته فكان هواه ووجهه وقلبه إلى الله عز وجل انصرف كيوم ولدته أمه " وأما الاعتدال قائماً فإنما هو مثول بالشخص والقلب بين يدي الله عز وجل فليكن رأسك الذي هو أرفع أعضائك مطرقاً مطأطئاً متنكساً وليكن وضع الرأس عن ارتفاعه تنبيهاً على إلزام القلب التواضع والتذلل والتبري عن الترؤس والتكبر وليكن على ذكرك ههنا خطر القيام بين يدي الله عز وجل في هول المطلع عند العرض للسؤال. واعلم في الحال أنك قائم بين يدي الله عز وجل وهو مطلع عليك فقم بين يديه قيامك بين يدي بعض ملوك الزمان إن كنت تعجز عن معرفة كنه جلاله بل قدر في دوام قيامك في صلاتك أنك ملحوظ ومرقوب بعين كالئة من رجل صالح من أهلك أو ممن ترغب في أن يعرفك بالصلاح فإنه تهدأ عند ذلك أطرافك وتخشع جوارحك وتسكن جميع أجزائك خيفة أن ينسبك ذلك العاجز المسكين إلى قلة الخشوع وإذا أحسست من نفسك بالتماسك عند ملاحظة عبد مسكين فعاتب نفسك وقل لها: إنك تدعين معرفة الله وحبه أفلا تستحين من استجرائك عليه مع توقيرك عبداً من عباده أو تخشين الناس ولا تخشينه وهو أحق أن يخشى ولذلك لما قال أبو هريرة " كيف الحياء من الله فقال صلى الله عليه وسلم تستحي منه كما تستحي من الرجل الصالح من قومك " وروي " من أهلك " وأما النية فاعزم على إجابة الله عز وجل في امتثال أمره بالصلا وإتمامها والكف عن نواقضها ومفسداتها وإخلاص جميع ذلك لوجه الله سبحانه رجاء لثوابه وخوفاً من عقابه وطلباً للقربة منه متقلداً للمنة منه بإذنه إياك في المناجاة مع سوء أدبك وكثرة عصيانك وعظم في نفسك قدر مناجاته وانظر من تناجي وكيف تناجي وبماذا تناجي وعند هذا ينبغي أن يعرق جبينك من الخجل وترتعد فرائصك من الهيبة ويصفر وجهك من الخوف. وأما التكبير فإذا نطق به لسانك فينبغي أن لا يكذبه قلبك فإن كان في قلبك شيء هو أكبر من الله سبحانه فالله يشهد إنك لكاذب وإن كان الكلام صدقاً كما شهد على المنافقين في قولهم: إنه صلى الله عليه وسلم رسول الله. فإن كان هواك أغلب عليك من أمر الله عز وجل فأنت أطوع له منك لله تعالى فقد اتخذته إلهك وكبرته فيوشك أن يكون قولك " الله أكبر " كلاماً باللسان المجرد وقد تخلف القلب عن مساعدته وما أعظم الخطر في ذلك لولا التوبة والاستغفار وحسن الظن بكرم الله تعالى وعفوه. وأما دعاء الاستفتاح فأول كلماته قولك " وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض " وليس المراد بالوجه الوجه الظاهر فإنك إنما وجهته إلى جهة القبلة والله سبحانه يتقدس عن أن تحده الجهات حتى تقبل بوجه بدنك عليه. وإنما وجه القلب هو الذي تتوجه به إلى فاطر السموات والأرض فانظر إليه أمتوجه هو إلى أمانيه وهمه في البيت والسوق متبع للشهوات أو مقبل على فاطر السموات وإياك أن تكون أول مفاتحتك للمناجاة بالكذب والاختلاق. ولن ينصرف الوجه إلى الله تعالى إلا بانصرافه عما سواه فاجتهد في الحال في صرفه إليه وإن عجزت عنه على الدوام فليكن قولك في الحال صادقاً. وإذا قلت " حنيفاً مسلماً " فينبغي أن يخطر ببالك أن المسلم هو الذي سلم المسلمون من لسانه ويده فإن لم تكن كذلك كنت كاذباً فاجتهد في أن تعزم عليه في الاستقبال وتندم على ما سبق من الأحوال. وإذا قلت " وما أنا من المشركين " فأخطر ببالك الشرك الخفي فإن قوله تعالى " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً " نزل فيمن يقصد بعبادته وجه الله وحمد الناس وكن حذراً مشفقاً من هذا الشرك واستشعر الخجلة في قلبك إن وصفت نفسك بأنك لست من المشركين من غير براءة عن هذا الشرك فإن اسم الشرك يقع على القليل والكثير منه. وإذا قلت " محياي ومماتي لله " فاعلم أن هذا حال عبد مفقود لنفسه موجود لسيده وأنه إن صدر ممن رضاه غضبه وقيامه وقعوده ورغبته في الحياة ورهبته من الموت لأمور الدنيا لم يكن ملائماً للحال. وإذا قلت " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " فاعلم أنه عدوك ومترصد لصرف قلبك عن الله عز وجل حسداً لك على مناجاتك مع الله عز وجل وسجودك له مع أنه لعن بسبب سجدة واحدة تركها ولم يوفق لها وأن استعاذتك بالله سبحانه منه بترك ما يحبه وتبديله بما يحب الله عز وجل لا بمجرد قولك فإن من قصده سبع أو عدو ليفرسه أو يقتله فقال: أعوذ منك بذلك الحصن الحصين وهو ثابت على مكانه فإن ذلك لا ينفعه بل لا يعيذه إلا تبديل المكان فكذلك من يتبع الشهوات التي هي محاب الشيطان ومكاره الرحمن فلا يغنيه مجرد القول فليقترن قوله بالعزم على التعوذ بحصن الله عز وجل عن شر الشيطان وحصنه " لا إله إلا الله " إذ قال عز وجل فيما أخبر عنه نبينا صلى الله عليه وسلم " لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي " والمتحصن به لا معبود له سوى الله سبحانه فأما من اتخذ إلهه هواه فهو في ميدان الشيطان لا في حصن الله عز وجل. واعلم أن من مكايده أن يشغلك في صلاتك بذكر الآخرة وتدبير فعل الخيرات ليمنعك عن فهم ما تقرأ. فاعلم أن كل ما يشغلك عن فهم معاني قراءتك فهو وسواس فإن حركة اللسان غير مقصودة بل المقصود معانيها: فأما القراءة فالناس فيها ثلاثة رجل يتحرك لسانه وقلبه غافل ورجل يتحرك لسانه وقلبه يتبع اللسان فيفهم ويسمع منه كأنه يسمعه من غيره وهي درجات أصحاب اليمين ورجل يسبق قلبه إلى المعاني أولاً ثم يخدم اللسان القلب فيترجمه. ففرق بين أن يكون السان ترجمان القلب أو يكون معلم القلب والمقربون لسانهم ترجمان يتبع القلب ولا يتبعه القلب. وتفصيل ترجمة المعاني أنك إذا قلت " بسم الله الرحمن الرحيم " فانو به التبرك لابتداء القراءة لكلام الله سبحانه وافهم أن الأمور كلها بالله سبحانه. وأن المراد بالاسم ههنا هو المسمى. وإذا كانت الأمور بالله سبحانه فلا جرم كان " الحمد لله " ومعناه أن الشكر لله إذ النعم من الله. ومن يرى من غير الله نعمة أو يقصد غير الله سبحانه بشكر لا من حيث إنه مسخر من الله عز وجل ففي تسميته وتحميده نقصان بقدر التفاته إلى غير الله تعالى. فإذا قلت " الرحمن الرحيم " فأحضر في قلبك جميع أنواع لطفه لتتضح لك رحمته فينبغث بها رجاؤك. ثم استثر من قلبك التعظيم والخوف بقولك " مالك يوم الدين " أما العظمة فلأنه لا ملك إلا له وأما الخوف فلهول يوم الجزاء والحساب الذي هو مالكه. ثم جدد الإخرص بقولك " إياك نعبد " وجدد العجز والاحتياج والتبري من الحول والقوة بقولك و " إياك نستعين " وتحقق أنه ما تيسرت طاعتك إلا بإعانته وأن له المنة إذ وفقك لطاعته واستخدمك لعبادته وجعلك أهلاً لمناجاته. ولو حرمك التوفيق لكنت من المطرودين مع الشيطان اللعين. ثم إذا فرغت من التعوذ وم قولك " بسم الله الرحمن الرحيم " ومن التحميد ومن إظهار الحاجة إلى الإعانة مطلقاً فعين سؤالك ولا تطلب إلا أهم حاجاتك وقل " إهدا الصراط المستقيم " الذي يسوقنا إلى جوارك ويفضي بنا إلى مرضاتك. وزده شرحاً وتفصيلاً وتأكيداً واستشهاداً بالذين أفاض عليهم نعمة الهداية من النبيين والصدقين والشهداء والصالحين دون الذين غضب عليهم من الكفار والزائغين من اليهود والنصارى والصابئين ثم التمس الإجابة وقل " آمين " فإذا تلوت الفاتحة كذلك فيشبه أن تكون من الذين قال الله تعالى فيهم فيما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل " يقول العبد " الحمد لله رب العالمين " فيقول الله عز وجل: حمدني عبدي وأثنى علي. وهو معنى قوله " سمع الله لمن حمده. الحديث الخ " فلو لم يكن لك من صلاتك حظ سوى ذكر الله لك في جلاله وعظمته فناهيك بذلك غنيمة فكيف بما ترجوه من ثوابه وفضله وكذلك ينبغي أن تفهم ما تقرؤه من السور - كما سيأتي في كتاب تلاوة القرآن - فلا تغفل عن أمره ونهيه ووعده ووعيده ومواعظه وأخبار أنبيائه وذكر مننه وإحسانه. ولكل واحد حق فالرجاء حق الوعد والخوف حق الوعيد والعزم حق الأمر والنهي والاتعاظ حق الموعظة والشكر حق ذكر المنة والاعتبار حق إخبار الأنبياء. وروي أن زرارة بن أوفى لما انتهى إلى قوله تعالى " فإذا نقر في الناقور " خر ميتاً وكان إبراهيم النخعي إذا سمع قوله تعالى " إذا السماء انشقت " اضطرب حتى تضطرب أوصاله. وقال عبد الله بن واقد: رأيت ابن عمر يصلي مغلوباً عليه وحق له أن يحترق قلبه بوعد سيده ووعيده فإنه عبد مذنب ذليل بين يدي جبار قاهر. وتكون هذه المعاني بحسب درجات الفهم ويكون الفهم بحسب وفور العلم وصفاء القلب ودرجات ذلك لا تنحصر.
|